السبت، 12 سبتمبر 2009

وما تدرى نفس بأى أرض تموت

حينما ألتحقت بالعمل ، منذ حوالى 12 عاما ، كان هناك مهندسا بدا لى حينئذ كبيرا بعض الشئ ( كان بمثل سنى الآن ) ،وسيما بعينين زرقاوتين ، و صوت خافت ، و مكتب يكاد يختفى تحت كوم من الرسومات و الأوراق ، و كان دائما لديه الكثير من العمل ، كنت قد التحقت بأحد القطاعات الفنية بالمصنع و الذى يتكون من ادارتين مثل الأهلى و الزمالك تعملان معا و تتنافسان بشدة على كل شئ آخر ( المكاتب - الأجهزة - المكافآت - حتى المهندسين الجدد ) ، كنت أنا فى الزمالك ، وكان هو فى الأهلى ،وكان هو ومهندس آخر أحترمه أيضا كثيرا و أقدره هما مصدر قوة الأهلى ، و لأننى كنت أول مهندسة التحق بالعمل بالادارة ، فلم يكن لدى الكثير من العمل لأن مديرى المباشر كان يخشى علي من العمل بالورشه مع العمال ، لذا فكلما شعرت بأننى بلا عمل ، كنت أذهب اليه فيقوم باعطائى بعض العمل لأنفذه له فى الورشة ، أو بعض الأوراق لأكتبها له ، مع الكثير من النصائح ...
ثم مضت السنوات ـ أصبح لى عملى ، و كنا كثيرا ما نختلف معظم الوقت لأننى كنت أعتقد أنه يحابى المهندسين فى فريق الأهلى أكثر من الزمالك و خاصة حين أصبح هو المدير العام لفريق الأهلى، و لكن لأنه هو أشرف ، فأنا كنت أعتقد انه يجب أن يأتى للزمالك أيضا بحقه ، و كنت كثيرا ما أعمل معه ، لأننا ظللنا طوال هذه السنوات ننتمى لنفس القطاع .
و ما فعله معى فعله مع معظم المهندسن الذين جاؤوا بعدى ، كان يشجع الجميع ، و يمنحهم فرصة ، أو فرصتين ، ثم يتركهم لأقدارهم .
الغريب أن أشرف لم يكن اجتماعيا حقا ، كان خجولا ، و منطويا بطريقة ما ، و هذا ما كان يجعل من لا يعمل معه يظنه مترفعا متكبرا ، و مع أنه كان أفضل مهندس فى المصنع ، فالحقيقة انه لم يكن متكبرا ، يجوز حاسس بنفسه قليلا ، لكنه كان انسانا جيدا ، صادق ، و مستقيم ،ويعرف الله ، و بطريقة ما كنا جميع نتشاحن معه من أجل أى ظلم أو مشكلة تقع علينا ، ربما لأننا كنا نعتقد أنه لابد أن يكون لديه حل لأى مشكلة .

دائما كلما تعرضت لمشكلة من أول نفاذ الحبر فى الطابعة الى المشاكل الكبيرة فى العمل ادارية أو فنية كنت أجد نفسى أذهب اليه ، ولست وحدى فى هذا لكن هذا كان ما يفعله معظم المهندسين و المهندسات فى القطاع، حتى حين قررت دراسة الماجستير بعد كل هذه السنوات كان هو الذى أختار معى مجال الدراسة ..

الاسبوع الماضى و لأول مرة كان سيترقى ليصبح مديرى فعليا، فقد كان سيصبح أخيرا مديرا للقطاع أى المدير الفنى للأهلى و الزمالك ، لكن كان عليه أولا السفر فى مهمة للعمل الى انجلترا ، و سافر أشرف و بعد يومين جائتنى مكاملة هاتفية من أحد زملائنا فى العمل ، كان يبكى وهو يقول " أشرف مات " ، نعم كان يبكى ، نحن حقا لسنا أقارب لكننا نمضى معا أحيانا فى العمل أكثر من 10 ساعات ، نحن نوعا ما عائلة ، و أشرف كا ن أخانا الكبير ، الأخ الذى تكره أنه دائما على حق ، و أن كلامه هو الذى سيتم تنفيذه فى النهاية ، لكنك لا تتصور أبدا انك ستذهب فى الصباح ، و أنه لن يكون موجودا ، و لو حتى لتوبيخك علي أخطائك ، الأخ الذى كان يوبخنى كثيرا حين أتأخر فى العمل لأنه كان يرى أن هذا سيؤثر على بيتى و بناتى ، لكنه يقوم بتوصيلى بدلا من بهدلتى فى المواصلات ، و لم استطع التصديق ، أشرف مسافر و سيعود يوم السبت ، انتظرت ساعه ، ووهاتفته ثانيا ، لكن الأمر كان مؤكدا ، أشرف مات .

نحن اليوم فى أجازة ، وربما لهذا أكتب هذه المدونة لأننى أشعر بحاجة شديدة للحديث عما أشعر به ، و لا أجد من أتحدث معه و يفهمنى ، اتمنى لو كنت فى العمل ، كنا سنبكيه معا ..
بالطبع كان لمهندس أشرف أخطاءه ، فهو لم يكن ملاكا ، لكنه كان رجلا جيدا ، فى زمن عز فيه وجود الرجال ، و أكره الشعور بأن ابنتاه الصغيرتان ربما لن تذكراه ، و لن تعرفا ما كان عليه أباهما .

على مكتبى توجد الطابعه الخاصة به ، قبل ان يسافر بيوم نفد من طابعتى الحبر ، و لم يكن هناك حبر فى المخزن ، فأعطانى طابعته حتى يعود ....

ذات يوم تأخرت كثيرا فى اجتماع مع أحد العملاء ، وكنت أمثل القطاع ، و أخذ مدير قطاع الانتاج يبحث عمن يقوم بتوصيلى ، فقلت له بثقة مهندس أشرف سيقوم بتوصيلى ، سألنى و هل انت متأكدة انه بالمصنع فأجبته بأننى متأكدة ، كيف ... لا أعلم ، لكنه دائما كان موجودا من أجلنا .

فى المصنع بعد أن ندخل من البوابة يوجد طريق طويل ( حوالى ربع ساعة مشى ) نسيره حتى نصل للمكاتب ، و لأننى دائما ما أتأخر و لا ألحق بسيارة المصنع ، يقوم زوجى بايصالي فى طريقه لعمله ، و يتركنى عند البوابة ، و أسير فى الطريق و أنا أتلفت دائما حتي تظهر سيارة أشرف الذى يأتى دائما متأخرا بعض الشئ مثلى ، ليقلنى معه الى المكتب ، و لا أعرف كيف يمكننى السير دون أن أبحث عنه ...

مات أشرف وحيدا في بلاد الغربة ، مات صائما ، وحيدا ...
لا أستطيع الامتناع عن التفكير أنه مات وحيدا ، بعيدا عنا ، وعن زوجته وأولاده، و مازلنا و أسرته فى انتظار وصول الجثمان ..
لله دائما حكمة ، أصبر نفسى بأنه مات شهيدا ، لأنه كان فى عمل ، لكننى أتمنى لو مات في سريره وسط أولاده .
ترك زوجة و أربعة بنات و مات.

الغريب أننى حين أفكر الآن فان أكثر ما يؤلمنى أننى أعلم أننى كنت أمضى الكثير من الوقت فى الخلافات حول العمل ، لكننى أبدا لم أحاول شكره ، أو الاعراب عن تقديرى لما يقوم به مع الجميع ،كنت أشترك مع زملائى كثيرا فى الشكوى منه حين نظن انه كان يجب أن ئكافئ فلانا ، أو انه كان يجب ألا يكافئ علانا ، بل لعلنى كنت الأكثر اختلافا معه دائما ، لكنني كنت أخاف دوما من مديح أى شخص أو محاولة الاقتراب منه ، حتى لا تكون هناك شبهة نفاق أو أى شبهات أخرى ، كم أتمنى الآن لو كنت أعربت له عن امتنانى و تقديرى له ، و لو لمرة ، مثلما كنت أتشاجر معه بالساعات أحيانا .

أما الحقيقة فاننى كنت دوما أراه مثل الأخ الكبير لى ، و كنت أجده قدوة قى العمل ، كان طموحى أن أكون مثله ، و كان أقصى ما يسعدنى هو مديحه لى على أى عمل ، لأنه لا يجامل أبدا ...

أشعر كأننى فقدت أخى الكبير ، أدعوا الله أن يغفر له ، ولأموات المسلمين و يجعل قبره روضة من رياض الجنة ، و يعطى لأهله الصبر و السلوان ، و يساعدهم على المضى فى حياتهم بدونه ، و يرسل لهم من يكون فى حاجتهم ، و الى جانبهم كما كان هو معنا جميعا ، لأن مثله لا ينسى ، و لا يعوض ...